الإسراء والمعراج- هل ارتد صحابة حقًا بسبب المعجزة؟

المؤلف: د. عصام تليمة11.17.2025
الإسراء والمعراج- هل ارتد صحابة حقًا بسبب المعجزة؟

تعد معجزة الإسراء والمعراج من الأحداث الجدلية التي أثارت ولا تزال تثير نقاشًا واسعًا عبر العصور، سواء في زمن النبوة أو ما تلاه. على الرغم من التقدم العلمي الهائل الذي قرب لنا الكثير مما كان يبدو مستبعدًا في الماضي، إلا أن بعض جوانب هذه المعجزة لا تزال محط تساؤل وتدقيق. المسلم المتشبث بالإيمان بالغيب يوقن بما ورد في القرآن الكريم والسنة النبوية الشريفة من دلائل قاطعة، أما ما سوى ذلك فيخضع للبحث والتحليل وفقًا لمنهجية البحث العلمي المعتبرة.

من بين القضايا التي استوقفتني مطولًا وأمعنتُ النظر في تفاصيلها، دون أن أجد إجابات شافية ووافية بالقدر الكافي، هي تلك المتعلقة بتفاصيل معجزة الإسراء على وجه الخصوص.

هذه المعجزة كانت مدار نقاش حاد وجدال واسع من قبل مشركي قريش، الذين كانوا على دراية ببيت المقدس والشام نظرًا لرحلاتهم التجارية الموسمية، سواء في فصل الصيف أو الشتاء.

لطالما استمعتُ وقرأتُ في خطب الدعاة والعلماء عن حادثة الإسراء وردود أفعال الناس حيالها، وكثيرًا ما كانت تتردد عبارة: "وازداد إيمانًا من آمن، وارتد بعض الناس عن الإسلام". ولكن السؤال الذي يطرح نفسه: هل حقًا ارتد صحابة عن الإسلام بسبب هذه المعجزة العظيمة؟

لم أجد في كتب السيرة النبوية ما يشفي الغليل بهذا الخصوص، إلا أني عثرت في مدونات السُنة على بعض الروايات التي تتناول الموضوع، إلا أن هذه الروايات لم تركز بشكل أساسي على مسألة الردة، بل كانت تأتي عرضًا في سياق الحديث عن تفاصيل الرحلة والنقاشات التي دارت بين الرسول -صلى الله عليه وسلم- ومشركي قريش.

سوف نتناول في هذا المقال أغلب الروايات التي تحدثت عن هذا الموضوع، مع فحص سريع لأسانيدها، ثم نركز على متونها، ونتساءل: هل من المنطقي أن يقع مثل هذا الحدث؟

الردة غالبًا ما تكون نتيجة قناعة راسخة بموقف معين، أو قد تحدث لشخص ضعيف الإيمان، فكيف يعقل أن يرتد أناس بعد سنوات طويلة من الإيمان، وبعد أن تعرضوا لابتلاءات شديدة، تفوق في شدتها ابتلاء الإسراء والمعراج، وبعد حصار شِعب أبي طالب المرير، وسلسلة طويلة من المحن الكبرى؟

روايتان تتناولان القضية

وردت روايتان تتناولان هذا الموضوع، الأولى مروية عن السيدة عائشة- رضي الله عنها- حيث قالت: "لما أُسري بالنبي- صلى الله عليه وآله وسلم- إلى المسجد الأقصى؛ أصبح يتحدث الناس بذلك، ‌فارتد ‌ناس ‌ممن ‌كانوا ‌آمنوا به وصدقوه، وسعوا بذلك إلى أبي بكر -رضي الله عنه- فقالوا: هل لك في صاحبك يزعم أنه أسري به في الليل إلى بيت المقدس، قال: أو قال ذلك؟ قالوا: نعم، قال: لئن كان قال ذلك لقد صدق، قالوا: وتصدقه أنه ذهب الليلة إلى بيت المقدس وجاء قبل أن يصبح؟! قال: نعم، إني لأصدقه بما هو أبعد من ذلك: أصدقه بخبر السماء في غدوة أو روحة. فلذلك سمي أبوبكر الصديق".

هذه الرواية محل خلاف بين العلماء، فمنهم من صححها كالحاكم، ومنهم من ضعفها كالشيخ الألباني وغيره.

أما الرواية الثانية، فهي مروية عن ابن عباس، حيث قال: "أُسري بالنبي- صلى الله عليه وسلم إلى بيت المقدس، ثم جاء من ليلته، فحدثهم بمسيره، وبعلامة بيت المقدس، وبعيرهم، فقال ناس، قال حسن: نحن نصدق محمدًا بما يقول؟ فارتدوا كفارًا، فضرب الله أعناقهم مع أبي جهل، وقال أبو جهل: يخوفنا محمد بشجرة الزقوم، هاتوا تمرًا وزبدًا، فتزقّموا".

هذه الرواية موجودة في مسند أحمد وأبي يعلى، وقد صحح إسنادها كل من الشيوخ: أحمد شاكر، ومحمد ناصر الدين الألباني، ومحققو مسند أحمد بإشراف الشيخ شعيب الأرناؤوط. وهنا تبرز عبارة "فارتدوا كفارًا"، فهل المقصود بها أنهم كانوا مؤمنين ثم كفروا، أم أنهم ازدادوا كفرًا على كفرهم بعد أن تجلت لهم المعجزة؟

يذهب الدكتور سعد بن عبدالله الحميد إلى القول بأن هذا الحديث لا يدل بالضرورة على أن هؤلاء الأشخاص كانوا مؤمنين، بل يشير إلى أنهم بعد أن رأوا الآية العظيمة، المتمثلة في تحديهم للنبي -صلى الله عليه وسلم- بأن يثبت صدقه وأنه أسري به إلى بيت المقدس في ليلة وعاد، وبعد أن أثبت ذلك، قالوا: "نحن لا نصدق محمدًا بما يقول"، فبدلًا من أن يؤمنوا، ازدادوا كفرًا وعنادًا.

ثمة رواية أخرى لا تتضمن لفظة الردة، بل تأتي بصيغة أكثر انسجامًا مع الحدث، حيث تقول: "فتجهز -أو كلمة نحوها- ناس من قريش إلى أبي بكر، فقالوا: هل لك في صاحبك يزعم أنه جاء إلى بيت المقدس ثم رجع إلى مكة في ليلة واحدة؟!"

أرى أن هذه الرواية هي الأقرب إلى الواقع، فالصيغة المستخدمة تدل على أن المتحدثين ليسوا مؤمنين بالأساس، فقولهم "صاحبك" كما في الروايات الأخرى، هي تعبير يستخدمه غير المؤمنين بالنبي محمد -صلى الله عليه وسلم-. والصيغة هنا منطقية، حيث تدل على أنهم أعدوا أنفسهم للتشكيك والسخرية مما يرويه محمد -صلى الله عليه وسلم-.

هل كان الرواة شهودًا على الحدث؟

استعرضنا الروايتين اللتين تتحدثان عن ارتداد البعض عن الإسلام، وهما مرويتان عن السيدة عائشة وعبدالله بن عباس -رضي الله عنهما-، وكلاهما من صغار الصحابة الذين كانوا في مكة في ذلك الوقت، فهل كانا شاهدين على الحدث وروياه بناءً على ذلك، أم أنهما نقلا الرواية عن آخرين؟

الأرجح أنهما نقلا ذلك عن آخرين سمعوا منهم أو مما تناقله الناس في ذلك الوقت.

رفض الشيخ الغزالي للرواية

من بين العلماء المعاصرين الذين اهتموا بدراسة السيرة النبوية نجد الشيخ محمد الغزالي -رحمه الله- الذي مر على هذه الحادثة مرورًا سريعًا، ورد على من أكد وقوعها من الأدباء والكتاب المعاصرين، مثل الدكتور محمد حسين هيكل في كتابه "حياة محمد".

قال الغزالي: "ويزعم بعض الكتاب أن فريقًا من المسلمين ارتد عقب الإسراء والمعراج إنكارًا لهما، بل يزيد الدكتور هيكل أن المسلمين تضعضعوا على أثر انتشار القصة على الأفواه، واستبعاد المشركين لوقوعها، وهذا كله خطأ، فلا الآثار التاريخية تدل عليه، ولا الاستنتاج الحصيف ينتهي به، ولا ندري كيف يقال هذا!".

وقد علق الألباني على كلام الغزالي بذكر رواية مسند أحمد، مؤكدًا أن ذلك ثابت في هذه الرواية.

تحليل متون الروايات

تبقى بعض النقاط المتعلقة بمتون هذه الروايات، وما يحيط بها من نقاش موضوعي، والتي تستحق التوقف عندها:

  • أولًا: إن مسألة ارتداد شخص عن دينه ليست أمرًا مستحيلًا، فقد حدثت قبل هذه الحادثة وبعدها، ولكن السؤال هنا: هل حدثت فعلًا في هذه الواقعة أم لا؟ وهل كانت معجزة الإسراء سببًا لارتداد بعض الصحابة أم لا؟

فالمسألة من حيث المبدأ ليست مستحيلة، ولكن التدقيق يكمن في مدى حدوث ذلك في ذلك التوقيت تحديدًا. فقضية ارتداد مسلم عن الإسلام ليست مستحيلة وليست نادرة، فقد وقعت في الماضي والحاضر وستظل تقع، والدليل على ذلك وجود أحكام خاصة بالمرتد والردة في كتب السنة وشروحها، وكتب الفقه والعقيدة بجميع مذاهبها. كما أنها حدثت في زمن النبوة.

  • ثانيًا: كيف يمكن أن يحدث ارتداد لعدد من الأشخاص كما تذكر الروايات، "فارتد ناس"، سواء كانوا قلة أو أكثر، دون أن يعرف من هم هؤلاء المرتدون، علمًا بأن عدد الصحابة في مكة كان قليلًا ومعدودًا بالاسم؟

لو حدث ذلك، لعُرف المرتدون بأسمائهم، كما حدث في واقعة ارتداد زوج السيدة أم حبيبة بنت أبي سفيان في الحبشة، وكما ورد عن ارتداد عبدالله بن أبي السرح فيما بعد، مع الإشارة إلى أنني قرأت كلامًا للشيخ محمد رشيد رضا يشكك في قضية ارتداد ابن أبي السرح.

  • ثالثًا: الردة تكون عن قناعة راسخة بموقف معين، أو تحدث لشخص ضعيف الإيمان، فكيف يرتد أناس بعد سنوات من الإيمان، وبعد أن تعرضوا لابتلاءات عظيمة، أشد من ابتلاء الإسراء والمعراج، وبعد حصار شِعب أبي طالب، وبعد سلسلة من الابتلاءات الكبرى، ومع أقوام تعرضوا لأشد أنواع التعذيب كي يتركوا دينهم، ولم يغير أحدهم دينه، بل عندما تلفظ عمار بن ياسر -رضي الله عنه- بكلمة الكفر مجبرًا، نزل القرآن ليؤكد إيمانه، وقد مرت هذه الفئة طوال هذه الفترة الزمنية بتشكيك في النبوة والوحي، لا يقل عن مسألة الإسراء والمعراج.

ثم إن كان هناك من ارتد لتشككه في إمكانية حدوث ذلك، فإنهم سألوه عن تفاصيل المسجد والمكان والطريق، وهذا ما ذكرته رواية ابن عباس، وفي روايات أخرى سألوه عن قافلة لهم في الطريق فوصفها لهم، فكيف لمن تشكك بعدما رأى نقاش المشركين له وسؤالهم عن هذه التفاصيل وإجابته، وقد أجاب بما توفر لديهم من معلومات، أن يكون ذلك سببًا في ردته؟!

  • رابعًا: لو كان هناك شخص واحد ارتد لحفل به مشركو قريش، إذ كان عدد المسلمين محدودًا ومعروفين بالاسم، فما بالنا والرواية تقول: "ارتد ناس"، وقد رأينا محاولات أبي جهل نفسه مع إخوة له، وأبناء عمومته، ومع آل ياسر كي يظفر منهم بكلمة تدل على أنهم تخلوا عن دينهم، وكيف فرح ومضى بعد أن قالها عمار مجبرًا، بينما قتل سمية وزوجها لرفضهما.

فلو كان هناك من ارتد بسبب هذا الحدث في مكة، وهم قلة، لعرفوا معرفة اليقين، ولكان رد فعل قريش مبالغًا فيه، ومستغلًا للحدث، وبانيًا عليه مع آخرين، وهو ما لم نر له أي أثر فيما يروى عن المرحلة المكية، وعن موقف قريش من المسلمين.

لماذا لم تخضع هذه الرواية للتدقيق الكافي؟

في تصوري أن سبب مرور هذه الجملة مرور الكرام، دون تدقيق كافٍ، هو أن أغلب المعاصرين الذين أرادوا الاستدلال على صحة وقوع الإسراء والمعراج، استندوا لهذه الجملة من باب: أنه لو كان منامًا أو بالروح فقط، لما ناقش كفار قريش رسول الله- صلى الله عليه وسلم- في ذلك، ولما ارتد من ارتد.

وانصرفت أذهان وعقول الباحثين في الموضوع لإثبات أمر يتعلق بالمعجزة، وغفلوا عن أمر آخر مهم تاريخيًا، وهو يتعلق بارتداد صحابة عن الإسلام بسبب المعجزة، وهو ما لا نجد دليلًا مقبولًا عليه، رغم ورود رواية فيها ما ذكرنا من ردود ومناقشات.

سياسة الخصوصية

© 2025 جميع الحقوق محفوظة